رأي

تحرير بيئة العمل من المهام الزائفة

كثيراً ما تمر علينا في حياتنا العملية اليومية، مهامٌ تبدو وكأنها تشغل كل أوقاتنا ولكنها في نهاية اليوم لا تضيف الكثير إلى ما نسعى لتحقيقه. خلال نقاش حديث مع أحد الأصدقاء، أشار إلى تلك المهام بوصفٍ أثار اهتمامي ودفعني للتأمل فيها بعمق. لقد أسماها “المهام الزائفة” – وهي مهام تُبقي الفرد منشغلاً طوال الوقت، لكنها في الحقيقة لا تساهم بشكل فعلي في تحقيق أي من أهداف الشركة. الأمر أشبه بمنح شخص كومةً كبيرة من الأوراق لترتيبها، ولكن بمجرد الانتهاء، لا تساهم هذه الأوراق في تحسين العمل أو حتى في تحقيق أي تقدم ملموس للشركة.

تصور، على سبيل المثال، موظفاً يقضي أيامه في إدخال بيانات داخل جداول لن يطلع عليها أحد أو تُستخدم لاتخاذ قرارات. رغم استهلاكها للوقت، فإن هذه المهمة لا تقدم أي قيمة استراتيجية تُذكر. ما يثير الاستغراب هو أن بعض المدراء يلجؤون إلى تكليف موظفيهم بمثل هذه المهام الزائفة، إما لأنهم يعتقدون أن إبقاء الجميع مشغولين يعني أنهم منتجون، أو لأنهم لا يملكون رؤية واضحة لما ينبغي فعله لدفع الشركة قُدماً. وفي أحيان أخرى، تُمنح هذه المهام كجزء من برامج تدريبية، لكنها تفشل في تحقيق قيمة تعليمية حقيقية. وفي أغلب الأحيان، يكون السبب ببساطة التمسك بالعادات القديمة دون التفكير في إمكانية وجود طرق أفضل وأكثر فاعلية.

إن المشكلة مع المهام الزائفة لا تكمن فقط في كونها مضيعة للوقت، بل إنها تلحق أضراراً أعمق بكثير. حين يُجبر الناس على إنجاز مهامٍ زائفة لا قيمة لها، يتسلل إليهم شعور بأن عملهم بأكمله لا معنى له. ونتيجة لذلك، يفقدون الحماس، ويقل إبداعهم، وتتراجع رغبتهم في بذل الجهد الإضافي. تخيل طاهياً يقضي يومه في تنظيف الأطباق بدلاً من تحضير أطباق شهية؛ لن يطول الأمر قبل أن يفقد شغفه بالمطبخ تماماً.

إن فهم الدور الحاسم الذي يلعبه التفاعل الحقيقي في بيئة العمل أمرٌ مهمٌ ولا يمكن تجاهله. حقيقة لا يمكن نكرانها هي أن الموظفين المتفاعلين لا يكونون أكثر إنتاجية فحسب، بل إنهم يجلبون الإبداع والشغف إلى أعمالهم، مما يساهم في خلق ثقافة عمل إيجابية وديناميكية. ولكن تلك المهام الزائفة، التي يبدو أنها لا تساهم إلا قليلاً في تحقيق الأهداف الرئيسية للشركة، يمكن أن تؤدي إلى فقدان الدافع بين الموظفين وتجعلهم يشعرون بأن مهاراتهم وأوقاتهم غير مُقدرة، مما قد يقلل من شعورهم بالرضا في العمل. وعلاوة على ذلك يمكن أن تؤدي المهام الزائفة إلى قتل الإبداع من خلال الحد من الفرص المتاحة للموظفين للانخراط في عمل أكثر تحديًا وذات مغزى. وهذا لا يؤثر فقط على الموظفين الأفراد، بل يمكن أن يؤثر أيضًا على ديناميكيات الفريق، مما يؤدي إلى جو في مكان العمل يفتقر إلى الحماس والتعاون. وبمرور الوقت، يمكن أن يدفع الإحباط الناتج عن هذه المهام غير المرضية الأفراد الموهوبين إلى البحث عن فرص في أماكن أخرى، مما يزيد من معدلات الاستقالات ويحرم الشركة من مواردها البشرية القيمة.

في مواجهة هذه التحديات، يصبح دور القيادة حاسماً. يتطلب بناء بيئة عمل خالية من المهام الزائفة جهوداً مستمرة من القادة لخلق أجواء عمل صحية ومثمرة، حيث ترتبط كل مهمة بوضوح بأهداف الشركة الكبرى. هذه الخطوات لا تعزز الإنتاجية فقط، بل ترفع الروح المعنوية للموظفين الذين يشعرون أن مساهماتهم تحدث فرقاً حقيقياً.

التخلص من المهام الزائفة يتطلب اتباع نهج مدروس يرتكز على إعادة النظر في أسلوب إدارة العمل اليومي. يمكن تحقيق ذلك من خلال إجراء مراجعات دورية للمهام التي يقوم بها الموظفون، لضمان أنها تتماشى مع الأهداف الاستراتيجية للشركة وتضيف قيمة حقيقية. بالإضافة إلى ذلك، يمكن الاستفادة من أدوات إدارة المشاريع لتحليل تأثير المهام المختلفة على الأداء العام، مما يسهل تحديد الأعمال التي تستنزف الوقت دون أن تحقق نتائج ملموسة. كما يُعد الإنصات إلى الموظفين وتشجيعهم على التعبير عن آرائهم وملاحظاتهم حول أهمية المهام التي يؤدونها أمراً أساسياً في هذه العملية. فآراء الموظفين قد تكشف عن رؤى قيمة تساعد في تحسين توزيع المهام، وضمان أن تكون جميع الأعمال ذات معنى وتصب في مصلحة الأهداف العامة.

تقليل المهام الزائفة لا يعني فقط التخلص من الأعمال غير الضرورية، بل يتطلب بناء ثقافة تُقدّر الوقت والجهد. عندما يكون لكل مهمة هدف واضح يخدم رؤية الشركة، يشعر الفريق بالمزيد من الشغف والرضا، مما يعزز نجاح المؤسسة واستدامتها. بهذه الطريقة، نؤكد تقديرنا الحقيقي للموظفين عبر تكليفهم بمهام هادفة، وليس مجرد أعمال زائفة.

من خلال التركيز على الحد من هذه المهام الزائفة، فإننا لا نحسن من كفاءة العمل فحسب؛ بل ونظهر احترامنا لوقت ومهارات فريق العمل. هذه الخطوة تشجع على أداء مهام ذات معنى حقيقي، مما يدفع بالشركة نحو تحقيق إنجازات طويلة الأمد. هذا النهج لا يقتصر على كونه مفيدًا للموظفين فحسب، بل إنه أيضًا خطوة استراتيجية ذكية لتحقيق النجاح المستدام واستمرارية الأعمال.

في نهاية الأمر، يتعلق الأمر كله بضمان أن الجهد المبذول يومياً له قيمة حقيقية. أن يعود الموظف إلى منزله بشعور الرضا لأن أسهم في تحقيق نجاح الشركة وصنع فرقاً ملموساً. قد لا يكون التخلص من تلك المهام الزائفة أمرًا سهلاً، لكنه بالتأكيد يستحق الجهد. فهو استثمار في الأفراد وفي مستقبل الشركة على حد سواء.

فراس ابو السعود

تحرير بيئة العمل من المهام الزائفة

أخصائي نظم هندسة البترول بخبرة تزيد عن 21 عامًا في هذا المجال. وهو حاصل على درجة بكالوريوس في الهندسة الكيميائية وشهادة الماجستير في هندسة وإدارة التشييد من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. إلى جانب خبرته التقنية، فهو مهتم بالتصوير الفوتوغرافي والتصميم الجرافيكي والذكاء الاصطناعي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى