رأي

لا تكن نسخة مزيّفة من نجاح الآخرين

فهم حقيقة الشعور بالرضا في عدم القدرة على الانسجام مع كل القوالب

بينما كنت أستمع إلى الراديو في طريقي للعمل قبل أيام، لفتت انتباهي عبارة ظلّ صداها يتردد في ذهني حتى بعد أن انتقل البرنامج لموضوع آخر: “لا تكن نسخة مزيّفة من نجاح الآخرين.” كلمات بسيطة، لكنها عميقة جعلتني أتأمل في عدد المرات التي حاولنا فيها تقليد نجاحات الآخرين دون أن نكون صادقين مع أنفسنا.

يظهر هذا الأسلوب في بيئات العمل أكثر مما نتصور. حيث نراقب من يتقدّمون في المناصب، ويحصلون على التقدير، ويقودون مبادرات مؤثرة، فنعتقد بداخلنا أن تقليدنا لأسلوبهم وقراراتهم وسلوكهم هو الطريق الصحيح نحو النجاح، متناسيين أن تقليد نجاح الآخرين نادرًا ما يقود إلى نمو حقيقي. بل انه في الغالب، يقود إلى الحيرة والإحباط وفقدان هويتنا الحقيقية دون أن نشعر.

عندما نحاول عبثًا تقليد مسارات الآخرين، فإننا نحاول أن نضع أنفسنا داخل قالب لم يُصمَّم لنا. ما نجح معهم كان خاصًا بهم، بفرقهم، بأوقاتهم، وبشخصياتهم. وهذا لا يعني بالضرورة أنه سينجح معنا. محاولتنا نسخ نجاحات الآخرين دون فهم نقاط قوتنا وضعفنا وشغفنا، تخلق فجوة بين من نحن وماذا نفعل. ومع الوقت، تتحول هذه الفجوة إلى شعور بعدم الرضا وفقدان للهدف الحقيقي.

التقليد يقتل الإبداع ويحدّ من الابتكار لأننا بذلك نتوقف عن اكتشاف أنفسنا ومهاراتنا الخاصة. نعيش داخل قصة غيرنا، ونتقمص شخصيات لا تشبهنا وننسى أن النمو الحقيقي يبدأ حيث ينتهي التقليد.

يذكرني هذا بقصة الغراب الذي حاول تقليد مشية الحمامة حتى نسي كيف يمشي كغراب. حين نحاول أن نكون شخصًا آخر، فإننا نخاطر بفقدان هويتنا وتميّزنا. وقد ننتهي بان نكون نسخًا باهتةً من غيرنا بدل أن نكون النسخة الكاملة من أنفسنا. وهذه بالطبع خسارة كبيرة تمنعنا من اكتشاف قدراتنا الفريدة وحدود إمكانياتنا.

في عالم القيادة، وضوح الهوية ليس رفاهية بل إنه البوصلة التي تحدد طريقنا في التواصل، واتخاذ القرار، والتأثير، وكسب الثقة. فالناس لا يتبعون الألقاب، بل يتبعون أولئك الذين تعكس أفعالهم قيمًا حقيقية، ويشعرون بحضورهم الأصيل وكل هذا لا يمكن تزييفه.

أحد أخطر الفِخاخ الخفية والخطيرة في الحياة المهنية هو الخلط بين التعلُّم والتقليد. التعلُّم من الآخرين أمر ضروري، لكن تقليدهم دون فهم السياق الكامن وراء أفعالهم ليس تعلمًا، بل هو محاكاة. والمحاكاة، مهما بدت متقنة، تفتقر للعمق. تتحول إلى تمثيل. وتحت الضغط، ينهار هذا التمثيل لأنه لم يكن أبدًا مبنيًا على قناعة حقيقية او مهارة داخلية.

تتطلب القيادة أكثر من مجرد التنفيذ؛ فهي تحتاج إلى التوافق بين ما نؤمن به، وما نقوله، وما نفعله. وهذا التوافق لا يأتي من استراتيجية مستعارة أو نموذج جاهز. بل يجب أن ينبع من الداخل.

لكي نتمكن من القيادة بفعالية، يتعين علينا أولاً أن نفهم أنفسنا. نحن بحاجة إلى طرح بعض الأسئلة الجوهرية:

ما الذي أؤمن به؟

أي نوع من القادة أريد أن أكون؟

كيف أُعرّف النجاح؟

كيف أريد للناس أن يشعروا تحت قيادتي؟

ليس هناك إجابات سهلة لتلك الأسئلة لكنها تقودنا إلى وضوح حقيقي واستقرار طويل المدى.

المهم هنا هو فهم حقيقة الشعور بالرضا في عدم القدرة على الانسجام مع كل القوالب. القيادة ليست سباق شعبية، ولا هي سعي وراء القبول من خلال اتباع (الترندات). أحيانًا، قد تبدو الأصالة طريقًا أبطأ ولكن مع مرور الوقت فأنها تبني الثقة والمصداقية والصلابة وهي أمور لا يمكن للتقليد وحده أن يوفرها أبدًا.

والحقيقة هي لا وجود لنموذج واحد للقيادة يناسب الجميع. أفضل القادة ليسوا أولئك الذين يتقنون تقليد الآخرين بشكل جيد. بل هم أولئك الذين يفهمون أنفسهم بعمق ويقودون بناءً على هذا الفهم. يعرفون نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم، ولا يتحسسون من التعلم من الآخرين. أولئك الذين يرسمون قراراتهم ببوصلة داخلية، لا بخريطة مستعارة.

هذا ما رسمته لي عبارة: “لا تكن نسخة مزيّفة من نجاح غيرك.” حتى لو صعدت لأعلى مكان عبر التقليد، ستشعر دومًا بعدم ثبات الأرض التي تقف عليها. ولن تعرف أبدًا ما إذا كنت قد وصلت إلى هذه النقطة بجدارة عبر نمو حقيقي أم فقط عبر التقليد. لكن عندما تُبنى أساليب القيادة لديك على قيمك الخاصة وهويتك الداخلية، فإن النجاح الذي تحققه يصبح شخصيًا للغاية وحقيقةً لا يمكن إنكارها.

تذكّر دائمًا: القيادة ليست أن تبدو كأفضل شخص في المكان. بل أن تكون النسخة الأكثر صدقًا من نفسك وأن تدع هذا الصدق يوجّه طريقتك في القيادة. لا تهدر طاقتك في محاولة أن تكون شخصًا آخر فذلك المقعد محجوز مسبقًا. بدلاً من ذلك، ركّز على أن تكون ذلك القائد الذي لا يمكن لأحد سواك أن يكونه.

فراس ابو السعود

لا تسمح لنورك أن يخفت

أخصائي نظم هندسة البترول بخبرة تزيد عن 21 عامًا في هذا المجال. وهو حاصل على درجة بكالوريوس في الهندسة الكيميائية وشهادة الماجستير في هندسة وإدارة التشييد من جامعة الملك فهد للبترول والمعادن. إلى جانب خبرته التقنية، فهو مهتم بالتصوير الفوتوغرافي والتصميم الجرافيكي والذكاء الاصطناعي.
زر الذهاب إلى الأعلى