خلال احدى ورش العمل التي حضرتها مؤخرًا، طلب منّا مقدم الورشة أن نغمض أعيننا وننتظر ما سيأمرنا به. وبعد لحظة من الصمت، قال: “أرجو منكم جميعا الإشارة إلى اتجاه الشمال!” انتظر قليلًا ثم طلب منّا فتح أعيننا وتفاجأنا جميعًا بما رأيناه: كنا نشير إلى ثلاثة عشر اتجاهًا مختلفًا.
كانت مهمة بسيطة، كلمة واحدة، اتجاه واحد ولكن بثلاثة عشر تفسيرًا مختلفًا.
ضحك البعض وبدا الارتباك على وجوه آخرين، بينما حاول البعض تبرير اختياره بالاستناد إلى ترتيب الغرفة. لكن مقدم الدورة لم يكن بانتظار لذلك الشرح فقد كانت الرسالة واضحة: حتى مع أبسط التعليمات، اليقين ليس أمرًا مُسلّمًا به كما نتصور. وحتى عندما نعتقد أننا جميعًا على وفاق، قد نكون أبعد ما نكون عن ذلك.
بقي ذلك الموقف عالقًا في ذهني. فرغم أن الهدف منه كان لغرض إيضاح أهمية الانسجام داخل الفرق، إلا أنه كشف عن أمر أعمق بكثير: كم مرة نعتمد في قراراتنا على “بوصلة داخلية” قد لا تتطابق مع الواقع، وكم هو خطير أن نفترض بأن الآخرين يرون العالم بنفس المنظور الذي نراه منه.
أكثر ما لفت نظري خلال تلك التجربة هو مستوى الثقة لدى المشاركين. فكل واحد منا أشار دون تردد، مقتنعًا تمامًا بصحة اختياره. ولكن عندما فتحنا أعيننا، أدركنا مدى بعدنا، ليس فقط عن الاتجاه الصحيح، بل عن بعضنا البعض أيضًا.
جعلني هذا الموقف أفكر في بيئة العمل. في الاجتماعات التي يوافق فيها الجميع بهز رؤوسهم، وعند المغادرة يحمل كلٌّ فرد في ذهنه فهم مختلف لما تم الاتفاق عليه. أيضًا حملني التفكير لفرق المشاريع التي يظن أفرادها أنهم يسيرون في اتجاه مشترك نحو “النجاح”، بينما، الواقع يقول، أن تعريف للنجاح يختلف عند كل واحد منهم عن البقية. في الشركات التي تضع أهدافًا استراتيجية، وتعتقد أن لدى الجميع رؤية مشتركة، بينما التنفيذ على أرض الواقع يثبت غير هذا الكلام.
المشكلة ليست في القيادة فقط، بل في طبيعة بشرية تميل إلى الافتراض بدل التحقق. جميعًا يحمل بداخله مجموعة من الافتراضات التي تشكلت عبر السنين والتجارب السابقة. وغالبًا ما نخلط بين ما هو مألوف وما هو واضح. فمجرد كون الشيء منطقيًا بالنسبة لنا لا يعني بالضرورة أن الآخرين سيفهمونه بالطريقة ذاتها.
في تلك الغرفة، بنى كل شخص إشارته للشمال بناءً على مرجع داخلي: شيء تذكّره، أو استشعره، أو ربما افترضه. اعتمدنا على حدسنا دون أن نسأل أنفسنا: هل هذا الحدس صحيح أساسًا؟ هذا بالضبط ما يؤدي إلى سوء الفهم، وانحراف المشاريع، وتآكل الثقة. ليس بسبب الإهمال، بل لأن كل فرد يظن أنه يسير في الاتجاه الصحيح، بينما هو في واقع الأمر يتبع “شمالًا” مختلفًا.
في عالم القيادة، هناك ثمن باهض لغياب التوافق. فالمسألة لا تتعلق فقط بالاتجاهات، بل بالقرارات. وأحيانًا، تتراكم أبسط الاختلافات في الفهم وتتحول إلى فجوات كبيرة. الأمر أشبه بقطارين انطلقا من المحطة نفسها لكن بزاوية بسيطة مختلفة؛ في البداية يبدوان متقاربين، لكن بعد بضع كيلومترات، يصبح كل منهما في مدينة مختلفة.
لهذا السبب، القيادة ليست في قدرتك على إعطاء الإجابات، بل بقدرتك على التأكد من أن بوصلات الجميع مضبوطة. أن تتوقف قليلًا في الوقت المناسب، لتسأل: هل نحن على نفس الصفحة؟ هل نرى نفس الهدف؟ هل نفهم الرؤية بنفس الطريقة؟
كم مرة في حياتنا المهنية والشخصية، تحركنا بخطى واثقة فقط لأننا نشعر بالحماس؟ كم مرة خلطنا بين “التحرك” و“الاتجاه الصحيح”؟ وكم مرة شعرنا بالإحباط لأن الآخرين “ما فهمونا”، بينما في الحقيقة كنا نتحدث عن فكرتين مختلفتين تمامًا؟
والأغرب من ذلك هو أننا كثيرًا ما نقدر السرعة أكثر من تقديرنا للتوافق. فنُعجب بمن يتحرك سريعًا، وبمن يتخذ قراراته بثقة. متناسيين حقيقة أنه إن كان يتحرك في الاتجاه الخاطئ، فإنه سيضل طريقه بسرعة أكبر.
جمال لحظة “الشمال” تلك كان مختزلا في أنها كانت صامتة تمامًا. لم يجادل أحد. لم يحاول أحد الدفاع عن اختياره. فقط فتحنا أعيننا، ونظرنا حولنا، وأدركنا أننا كنا جميعًا واثقين… لكن كلٌ منا كان مخطئًا بطريقة مختلفة. كانت لحظة تواضع. وتلك الدرجة من التواضع، هي بالضبط ما نحتاجه أكثر، خاصة عند القيادة، أو التوجيه، أو العمل ضمن فرق.
في كثير من الأحيان، لا تكفي الأسئلة العامة مثل: “هل الجميع يعرف وجهتنا؟”
السؤال الأذكى هو: “كيف ترى الاتجاه؟ أرني الشمال من وجهة نظرك.” لأننا عندما نطلب من الآخرين أن يوضّحوا رؤيتهم بدلًا من الاكتفاء بالموافقة، نكتشف أن ما يبدو اتفاقًا ظاهريًا قد يخفي تباينات كبيرة. وحين تظهر هذه الفروقات، يصبح بالإمكان تصحيحها قبل أن تتحول إلى فجوات حقيقية.
خرجتُ من تلك الورشة بأكثر من مجرد موقف طريف أو تمرين عابر. خرجتُ بيقين جديد: أن الوضوح ليس أمرًا مضمونا، وأن التوافق لا يحدث تلقائيًا. ليس كل صمت .. اتفاقًا، ولا كل حركة تعني أننا نسير في الاتجاه الصحيح. ومع كل خطوة نخطوها في مساراتنا المهنية، وفي علاقاتنا، وداخل فرق العمل، نحتاج أن نمتلك الشجاعة لنقف قليلًا، نراجع بوصلتنا، وربما نعترف: قد لا أكون متجهًا نحو الشمال كما كنت أظنّ.
فالنجاح لا يتعلق بمن ينطلق أولًا، بل بمن يتأكد أنه يتجه نحو الوجهة الصحيحة؛ بأعينٍ مفتوحة، وبوصلاتٍ مضبوطة، واتجاهات مؤكدة.




