أثناء تصفحي للإنترنت وقعت عيني على منشور عميق شارك فيه الأستاذ معتز أبو عنق حوارًا أجراه مع ابنه حول اختيار التخصص الجامعي المستقبلي. بدأ الحديث بسؤال بسيط: “ما الذي تخطط لدراسته؟”، لكنه سرعان ما تحول إلى نقاش أعمق عن الأهداف، والغاية، وكيفية التخطيط للمستقبل. هذا المنشور لامس شيئًا بداخلي، ليس فقط بسبب الموضوع نفسه، بل لأنه ذكرني كيف ان الكثير منّا ومن دون أن ننتبه يميل لتقييد نفسه ويضع سقفًا منخفضًا لطموحاته وآماله.
يضع الكثير من الناس، سواء كانوا طلابًا أو مهنيين أو حتى أولياء أمور، أهدافًا بسيطة، مألوفة، وسهلة التحقيق. ولا خطأ في الاستمتاع بالإنجازات الصغيرة أو الاحتفال بالتقدم التدريجي، إلا أننا نادرًا ما نتوقف نسأل أنفسنا: هل هذا الهدف حقًا هو أفضل ما يمكننا أن نطمح إليه، أم أنه ببساطة الأكثر ملاءمة؟
عندما يكون الهدف بسيطًا، يكون الجهد المبذول لتحقيقه بسيطًا وعلى قدره. وعندما يكون السقف منخفضًا، فإن الطموح لا يتجاوز حدوده. المشكلة ليست في الوصول، بل في أن الوصول وفي الكثير من الأحيان لا يُشعرنا بالرضا، لا لأننا فشلنا، بل لأننا ببساطة لم نتحدَّ أنفسنا لنصل لأبعد مما كنا نعتقد أننا قادرون عليه. والحقيقة قي اغلب الأحيان هي أنه كان باستطاعتنا الوصول لأهداف أكبر بكثير فقط لو وضعناها ضمن تطلعاتنا. نخطط ضمن إطار ضيق، غير مدركين أن الشيء الوحيد الذي يحدنا هو توقعاتنا.
ومن جهة أخرى، كثيرًا ما ينحصر تركيزنا على الخطوة القريبة التالية فقط: سواءً كانت اجتياز امتحان، أو الحصول على شهادة، أو الحصول على وظيفة، أو الحصول على ترقية دون أن نأخذ لحظة لنسأل: “وماذا بعد ذلك؟”. ونظرًا لانشغالنا بالمحطات قصيرة المدى يمضي قطار العمر دون أن نرى الصورة الكبرى. ما نوع الحياة التي نرغب حقًا في بنائها؟ أين نرى أنفسنا بعد خمس أو عشر أو عشرين عامًا من الآن؟ في غياب الرؤية بعيدة المدى، قد نقضي سنوات نحاول فيها تسلق سلم النجاح، لنكتشف بعد فوات الأوان أنه كان يستند إلى الجدار الخطأ.
في الكثير من الأحيان فإن أذكى قرار قد يمكن اتخاذه ليس الاستمرار في التسلق، بل النزول، والتأمل، وتجاوز ذلك الجدار. وإذا لم يكن الطريق الذي نسير فيه متماشيًا مع طموحاتنا الحقيقية، فليس من المقبول فحسب، بل من الضروري أيضًا التكيف والمضي قدمًا بشكل مختلف.
بالطبع فإن هذا الإدراك يتطلب وقفة تأمل ولحظة شجاعة لإعادة تقييم مسارنا الحقيقي. فرغم أن الكثيرون يخشون تعديل المسار، معتقدين أنه علامة على الفشل، إلا أن الحقيقة غالبًا ما تكون عكس ذلك. فتغيير الاتجاه قد يكون تعبيرًا قويًا عن الوعي الذاتي، وفرصة ثمينة لتصحيح المسار قبل الوصول إلى وجهة لم تعد تُرضينا.
كلامي هني ليس من باب التنظير، بل من واقع تجربة شخصية. فقد بدأت رحلتي الأكاديمية بدراسة الهندسة الكيميائية، ثم أكملت الماجستير في هندسة وإدارة المنشآت. ومن اللافت أنني لم أعمل فعليًا في أي من هذين التخصصين. مع مرور الوقت، اكتشفت أن شغفي الحقيقي لا يكمن في العمل الهندسي التقليدي، بل في تلك المساحة التي تلتقي فيها الهندسة بالتكنولوجيا ونظم المعلومات. أعمل اليوم كأخصائي في تطبيقات هندسة البترول، وقد وصلت إلى هذا الدور من خلال المزج بين خلفيتي الأكاديمية والمجالات التي كنت أستمتع بها حقًا. ورغم أنني لا أكتب البرمجيات، إلا أنني انغمست في الجوانب التقنية والتحليلية للمجال، وعلّمت نفسي ما كنت بحاجة لمعرفته، وبقيت فضوليًا ومندفعًا نحو التعلم والنمو وحاولت تطوير إمكانياتي ومهاراتي العملية قدر ما استطعت. قد يرى البعض أنني نزلت من السلم الذي كان متكئًا على أول جدار، لكنه في الحقيقة لم يكن مناسبًا لما أطمح إليه. عندما نزلت من ذلك السلم، لم أبدأ من الصفر، بل حملت معي كل ما اكتسبته من معرفة، وشجاعة، ومهارات شخصية، واستثمرتها في تسلق جدار مختلف، أقرب لما أنا عليه فعلًا. والأجمل من ذلك أنني ما زلت أتسلقه حتى اليوم، بفرح، وطاقة، وهدف، وأحتفل بإنجازات جديدة على طول الطريق.
استحضر هنا مثالًا عمليًا رائع يتمثل في ستيف جوبز. عندما إبعاده من شركة “آبل”، الشركة التي شارك في تأسيسها، ظنّ الكثيرون أن ذلك سيعني نهاية نفوذه في عالم التكنولوجيا. لكن بدلًا من الاستسلام، استغل جوبز تلك الفترة لاستكشاف مشاريع جديدة. أطلق شركة NeXT واستثمر في Pixar، وهما المشروعان اللذان لعبا لاحقًا دورًا كبيرًا في التقنية والترفيه. لم تكن عودته إلى آبل مجرد عودة، بل كانت إعادة ابتكار مدفوعة بالوضوح والرؤية وفهم أعمق للهدف. تذكرنا قصته بأن النزول عن السُلم ليس النهاية. بل أحيانًا، هو بداية الطريق نحو الجدار الصحيح.
في نهاية المطاف، فإن النجاح الحقيقي لا يُحدد بسرعة الوصول ولا بالمسمى الوظيفي بل بمدى التوافق بين ما نسعى إليه وبين ما نؤمن بأنه يستحق السعي. هل نطارد شيئًا يستحق؟ هل نحلم بما فيه الكفاية؟ وهل نخطط للمستقبل بطريقة تضمن أننا لن نندم لاحقًا؟ هذه أسئلةٌ ينبغي لكل واحد منا أن يطرحها على نفسه من وقتٍ لآخر. فالأمر لا يقتصر على الوصول إلى هدفٍ ما، بل التأكد من أننا نسير في الاتجاه الصحيح.