في إحدى القرى الصغيرة، كانت هناك حفرة تتوسط أحد الشوارع، تحولت مع الأيام إلى فخٍ يتربص بأهالي القرية. كانت الحوادث تتكرر، وكان نقل المصابين إلى المستشفى الواقع خارج حدود القرية يمثل تحديًا إضافيًا، مما فاقم من معاناتهم ومعاناة ذويهم.
سعى أعيان القرية إلى معالجة المشكلة، فعقدوا عدة اجتماعات وطرحوا العديد من الحلول، كان أبرزها شراء سيارة إسعاف. وقد ساهم هذا الإجراء مبدئيًا في تقليص زمن نقل المصابين إلى المستشفى. إلا أن الحل سرعان ما أثبت قصوره، فبمجرد انطلاق الإسعاف لنقل مصاب، حتى يقع مصابٌ آخر ضحيةً للحفرة ذاتها، ليجد نفسه مضطرًا لانتظار عودة السيارة.
فكّر الأعيان مجددًا، وقرروا شراء سيارة إسعاف إضافية. ورغم هذه الخطوة، لم تختفِ المشكلة الأساسية، واستمر المصابون في السقوط، وبقي الانتظار قائمًا.
في محاولة أخيرة لإيجاد حل جذري، استعانوا بأحد الخبراء لدراسة الوضع. وبعد تحليل شامل، قال لهم بابتسامة خفيفة: “الحل بسيط… ادفنوا الحفرة، وأحفروا واحدة أخرى بجانب المستشفى.”
لقد اعتاد سكان القرية وجود الحفرة إلى درجة أنهم لم يعودوا يرونها كمشكلة قابلة للحل، بل كجزء من الواقع الذي ينبغي التكيف معه. وهنا تتجلى إحدى أهم الإشكالات في إدارة المشكلات:
كلما طال عمر المشكلة، كلما أصبح من الصعب رؤيتها. فالألفة تولّد القبول، والقبول يُميت التساؤل. نُعدّل تصرفاتنا، ونُغير أنظمتنا، ونخفض سقف توقعاتنا، حتى تتلاشى المشكلة الأصلية من وعينا، ونعتاد على تبعاتها وكأنها قدر لا مهرب منه.
في تلك القرية، لم تعد الحفرة تمثل خطرًا ماديًا فقط، بل تحولت إلى بقعة عمياء في التفكير الجماعي. انشغل الجميع بتحسين سرعة الاستجابة وتطوير وسائل النقل ورصد الحوادث، دون التطرق إلى السؤال الجوهري: لماذا توجد الحفرة أساسًا؟
تحوّل التعامل مع أعراض المشكلة إلى ممارسة طبيعية، بينما تم تجاهل السبب الحقيقي.
ومع تصاعد الجهود الإدارية، بدا أن القرية أصبحت أكثر انشغالًا من أي وقت مضى:
سيارات الإسعاف لا تتوقف، التقارير تُكتب، المؤشرات تُرصد، الاجتماعات تُعقد.
لكن هذا النشاط الظاهري لم يترجم إلى نتائج حقيقية؛ فالجهد تضاعف، بينما بقي الأثر محدودًا.
وهنا ظهر فخ آخر: فخ التفكير التفاعلي. فبدلاً من معالجة جذور المشكلة، ركزت الجهود على التعامل مع نتائجها. ورغم أن شراء سيارات الإسعاف بدا حلاً منطقيًا وعاجلًا، إلا أنه عالج الأعراض لا الأسباب.
كل رحلة إسعاف كانت تُراكم أعباءً إضافية: تكاليف، موارد مهدورة، استنزاف للوقت والطاقة، فضلاً عن ترسيخ وهم السيطرة على الوضع.
هذا المشهد لا يقتصر على تلك القرية الصغيرة فحسب، بل هو مرآة لما يتكرر في المؤسسات والمجتمعات. وحتى في حياتنا الشخصية. ففي المؤسسات، تبقى الأنظمة القديمة قائمة، لا لأنها فعّالة، بل لأن الجميع اعتاد على وجودها. وفي المجتمعات، تتراكم العيوب الصغيرة لأن إصلاحها يحتاج إلى جرأة نفتقدها في الكثير من الأحيان. وفي حياتنا الخاصة، تواصل بعض العادات المستنزفة أو حتى العلاقات السامة نخر أيامنا فقط لأننا استسلمنا لها وجعلناها جزءًا من روتينيات حياتنا اليومية. وتتراكم المشكلات الصغيرة لأن معالجتها تتطلب شجاعة لم تعد متوفرة.
لا يكمن الخطر الحقيقي في المشكلة ذاتها، بل في الراحة المضللة التي نصنعها حولها.
نقبل بالقليل من الفاعلية، والقليل من الراحة، بل أحيانًا بالقليل من الألم فقط لأن فكرة التغيير توجعنا أكثر من معايشة الألم ذاته. بمرور الوقت، نُطبع مع العبء، ونتقن التعامل مع نتائجه، دون أن نجرؤ على التساؤل: هل كان بإمكاننا التخلص من أسبابه؟
ومع كل هذا، لم يكن المال أو الوقت أو غياب القيادة هو الحاجز الحقيقي أمام الحل، بل كان الافتراض غير المعلن بأن الحفرة يجب أن تبقى. افتراض صامت، لكنه يعمل كجدار خفي، يحدد حدود تفكيرنا دون أن نشعر. أحيانًا يتطلب الأمر أن ننظر له بعينٍ مختلفة ورؤية لا تثقلها أعوام الألفة، وهذا بالضبط ما جعل اقتراح الخبير مفاجئًا وغير متوقعًا، لم يكن الحل مثاليًا، لكنه أزاح الغمام عن جوهر المشكلة: لم تكن الحفرة هي المشكلة الكبرى، بل كانت العقول التي اعتادت وجودها. لقد قبل أهل القرية بوجود الحفرة دون أن يطرحوا أي تساؤل حولها.
العبرة هنا لا تتعلق بالحفرة أو بسيارات الإسعاف فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى كيفية تعاملنا مع المشكلات عمومًا. في المرة القادمة التي تجد فيها نفسك تبذل جهدًا أكبر، وتبدأ بتكديس الحلول المؤقتة، وتحاول تحسين أساليب الاستجابة، توقّف قليلًا، وخذ خطوة إلى الوراء، واسأل نفسك: ما الذي توقفنا عن رؤيته؟ وما الذي قبلناه ضمنيًا لمجرد أنه أصبح مألوفًا؟
إن حل المشكلات لا يبدأ بتكثيف الجهد ولا بتوسيع الأدوات، بل يبدأ بإعادة صياغة الرؤية، وبالشجاعة على التساؤل الجذري:
تذكر دائمًا أن أخطر المشكلات ليست تلك التي نهاب مواجهتها، بل تلك التي لم نعد نلحظ وجودها. وأحيانًا، كل ما يلزم كي نبدأ الحل… هو أن نفتح أعيننا من جديد.