رأي

هل طفرة الشركات الناشئة في السعودية مستدامة؟

تحليل لنمو بيئة ريادة الأعمال بعد رؤية 2030

شهدت الشركات الناشئة في السعودية نموًا متسارعًا خلال السنوات الأخيرة، جعلها في صدارة مشهد ريادة الأعمال في الشرق الأوسط. لكن، هل هذا النمو قابل للاستدامة، أم أنه مجرد طفرة مؤقتة؟

وفقًا لتقرير SVC Saudi Arabia Venture Capital Report 2024 ارتفع حجم سوق رأس المال الجريء في المملكة بنسبة 33% على أساس سنوي ليصل إلى 1.38 مليار دولار. كما شهد تمويل رأس المال الجريء في المملكة نموًا مستمرًا منذ عام 2019، بمعدل نمو سنوي مركب (CAGR) قدره 86% خلال خمس سنوات حتى عام 2023.

بالإضافة إلى ذلك، أشار تقرير Startup Genome إلى أن الرياض تقدمت في تصنيف النظم البيئية للشركات الناشئة الناشئة من المرتبة 61-70 في عام 2022 إلى المرتبة 51-60 في عام 2023، مما يعكس تطورًا ملحوظًا في بيئة ريادة الأعمال في المدينة.

على الرغم من هذا التقدم الذي شهده قطاع الشركات الناشئة في السعودية،إلا أن بعض الأسواق الإقليمية شهدت تراجعًا في الاستثمارات. وفقًا لتقرير MAGNiTT، انخفضت الاستثمارات في الشركات الناشئة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بنسبة 29% في عام 2024 مقارنة بعام 2023. هذا التباين يثير تساؤلات حول مدى استدامة نمو الشركات الناشئة في السعودية، خاصة مع التحديات الاقتصادية العالمية والتنافسية الإقليمية المتزايدة.

دور رؤية 2030 في نمو الشركات الناشئة في السعودية

أطلقت رؤية السعودية 2030 تحولًا شاملًا في الاقتصاد الوطني، وجعلت من ريادة الأعمال إحدى الركائز الأساسية لهذا التحول. الهدف كان واضحًا: تقليل الاعتماد على النفط، وتحفيز الابتكار، وخلق بيئة أعمال جاذبة ومحفزة.

من خلال رؤية 2030، تم:

  • تبسيط الإجراءات الحكومية لتأسيس الشركات

  • سن تشريعات تحفز الاستثمار المحلي والأجنبي

  • تقديم حوافز لرواد الأعمال والمستثمرين في القطاعات التقنية والناشئة

مبادرات مثل منشآت، سدايا

  • منشآت (الهيئة العامة للمنشآت الصغيرة والمتوسطة):
    وفّرت حاضنات أعمال، ومسرّعات نمو، وتمويلات مدعومة. كما أطلقت منصات مثل “جدير”  لدعم رواد الأعمال والشركات الناشئة.

  • سدايا (الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي):
    ساهمت في تمكين الشركات الناشئة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، عبر الوصول إلى البنية التحتية الرقمية الضخمة، والدعم في تنفيذ حلول الذكاء الاصطناعي في السوق المحلي.

الدعم الحكومي المباشر وغير المباشر

قدمت الحكومة السعودية حزم دعم مالي وغير مالي شملت:

  • برامج تمويل ميسرة من بنك التنمية الاجتماعية

  • منصات استثمار حكومي مثل صندوق الاستثمارات العامة PIF

  • إعفاءات ضريبية وجمركية على بعض الأنشطة

  • تسهيلات في التراخيص من خلال منصة “المركز السعودي للأعمال”

هذا الدعم أتاح لمئات من الشركات الناشئة الانطلاق في بيئة مرنة وأكثر تحفيزًا مقارنة بسنوات ما قبل الرؤية.

تمكين المرأة السعودية

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا جذريًا في تمكين المرأة السعودية للمشاركة في سوق العمل وريادة الأعمال.
وبحسب الهيئة العامة للإحصاء، ارتفعت نسبة مشاركة السعوديات في القوى العاملة إلى 36.2٪ في الربع الثالث من عام 2024، مقارنة بـ17٪ فقط في عام 2017، ما يعكس تطورًا حقيقيًا في السياسات والفرص المتاحة للمرأة.

تحليل واقع السوق السعودي اليوم

بحسب التقرير الربع الرابع لعام 2024 الصادر عن منشآت، أنهت المملكة العربية السعودية عام 2024 بعدد تجاوز 1.6 مليون منشأة تجارية مسجلة في مختلف أنحاء البلاد. وكانت الرياض وحدها قد شهدت تسجيل أكثر من 62,000 سجل تجاري جديد خلال الربع الرابع فقط، مما يعكس الزخم المتزايد الذي يشهده قطاع المنشآت الصغيرة والمتوسطة في المملكة.

هذا النمو النشط توج بتصدر السعودية لمشهد التمويل الجريء في المنطقة، حيث جمعت الشركات الناشئة السعودية ما يتجاوز مجموعه ملياريّ ريال خلال عام 2024. وقد ساهم هذا النشاط الاقتصادي في تحقيق نمو حقيقي بنسبة 4.4٪ في الناتج المحلي الإجمالي خلال الربع الرابع، ليؤكد أن المملكة تسير بخطى ثابتة نحو تنويع اقتصادها وتعزيز مكانتها كبيئة ريادية رائدة في المنطقة.

مؤشرات نمو قطاع الشركات الناشئة في السعودية

المؤشر القيمة
نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي 4.4٪
نسبة الزيادة ربع السنوية في التسجيلات التجارية 67٪
عدد التسجيلات الجديدة في الربع الرابع 160,000
إجمالي التسجيلات التجارية في المملكة 1.6 مليون
نسبة الزيادة في تسجيلات التجارة الإلكترونية 10٪
إجمالي شركات التجارة الإلكترونية حتى نهاية 2024 40,953

نسبة توزيع التسجيلات التجارية حسب المناطق – الربع الرابع 2024

نسبة توزيع التسجيلات التجارية
نسبة توزيع التسجيلات التجارية

 

أبرز التحديات التي تواجهها الشركات الناشئة في السعودية

وفقًا لتقرير“Saudi Arabia: Harnessing Human Capital for Economic Success” الصادر عن Arthur D. Little في سبتمبر 2024، لا تزال المملكة تواجه فجوة  بين مخرجات التعليم واحتياجات سوق العمل، خصوصًا في المهارات التقنية المتخصصة المطلوبة في مشاريع كبرى مثل نيوم والبحر الأحمر. التقرير يشير إلى أن التعليم التقليدي لا يلبي متطلبات الصناعات الناشئة، مما يؤدي إلى تحديات في التوظيف والإنتاجية، رغم وجود بعض المبادرات الناجحة مثل المعهد الوطني للتدريب الصناعي.

لمعالجة هذه الفجوة، يمكن التركيز على تلبية احتياجات السوق الفورية من خلال تعزيز التعاون بين الصناعة والأكاديميا، وتطوير برامج تعليمية متخصصة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن تبني نماذج تعليمية مبتكرة تركز على التعلم المستمر وتطوير المهارات على المدى الطويل، مستفيدين من تجارب ناجحة في دول أخرى مثل سنغافورة. يهدف هذا النهج المزدوج إلى تجهيز القوى العاملة السعودية بالمهارات اللازمة لدعم التحول الاقتصادي وتحقيق أهداف رؤية 2030.

وكان وليد البلاع، المؤسس في شركة “سكنى فنتشرز” (Sukna Ventures)، قد صرّح في مقابلة مع قناة CNN الاقتصادية عام 2024 أن أحد التحديات الكبرى التي تواجه السوق السعودي هو غياب ثقافة الاستحواذ والتخارج والاندماج، وهي عناصر أساسية لنمو الشركات الناشئة وتحولها إلى شركات ضخمة.

كما أشار إلى ضرورة إعادة توزيع الأدوار بوضوح بين القطاعين العام والخاص، وصناديق الاستثمار السيادية مثل صندوق الاستثمارات العامة، من أجل تعزيز التكامل وتوفير بيئة داعمة لريادة الأعمال.

وأضاف البلاع أن هناك حاجزًا واضحًا أمام توسع الشركات الناشئة للوصول إلى مرحلة “اليونيكورن”، موضحًا أن ذلك يتطلب وجود سوق قادر على استيعاب هذا التوسع.

هل هذا النمو مستدام أم مؤقت؟

رغم الطفرة التي يشهدها مشهد ريادة الأعمال في السعودية، يبقى السؤال الأهم: هل هذا النمو قابل للاستمرار؟
للإجابة، لا بد من تحليل  أسواق مشابهة في المنطقة والاستفادة من تجربتهم.

ماذا تعلمنا من الإمارات، مصر، وسنغافورة؟

تشهد الأسواق الناشئة عادة طفرات سريعة في تأسيس الشركات والاستثمار، لكنها قد تتعرض لتباطؤ لاحقًا إذا لم تُدعّم بأسس اقتصادية ومؤسسية قوية.

  • في الإمارات، تواصل دولة الإمارات تعزيز دعمها لريادة الأعمال والشركات الناشئة من خلال سياسات حكومية مرنة، وتشريعات متقدمة، وبنية تحتية عالمية المستوى، ما يجعلها واحدة من أكثر الوجهات جاذبية للمستثمرين ورواد الأعمال على مستوى العالم.

  • في مصر، شهدت الشركات الناشئة نموًا لافتًا ولكن يواجه السوق المصري تحديات بسبب نقص التمويل والبيروقراطية.حيث أشار تقرير من منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (OECD) إلى أن العديد من الشركات في مصر ما زالت تواجه صعوبات في الوصول إلى التمويل، حيث تفضل البنوك بشكل كبير إقراض الحكومة. وأكد التقرير أن تحسين الوصول إلى التمويل سيسهم في خلق بيئة أكثر تنافسية، مما يعزز نمو القطاع الخاص.

  • أما سنغافورة، فقدّمت نموذجًا مستدامًا بفضل الربط الاستراتيجي بين التعليم، والقطاع الخاص، والمسرعات. ويُعزى نجاح سنغافورة في بناء بيئة ريادية مستدامة إلى الدعم الحكومي الاستباقي، حيث تقدم الدولة حوافز سخية، ومنحًا تمويلية، وبرامج إرشاد ضمن مبادرات مثل Startup SG، والتي توفر فرص تمويل وشبكات تواصل للمؤسسين الجدد. فعلى سبيل المثال، يمنح برنامج Startup SG Founder تمويلًا تأسيسيًا يصل إلى 50 ألف دولار سنغافوري لرواد الأعمال الجدد، بينما يقدم Startup SG Tech تمويلًا يصل إلى 500 ألف دولار سنغافوري لدعم تطوير وتطبيق التقنيات المبتكرة.

يمكن أن تستفيد السعودية من هذه التجارب عبر تعزيز المرونة التشريعية كما في الإمارات، وتوسيع أدوات التمويل لتجنب فجوة النمو كما في مصر، إلى جانب الاستثمار طويل الأجل في التعليم والتقنيات الناشئة كما في سنغافورة، لضمان بيئة ريادية مستدامة ومنافسة عالميًا.

هل الثقافة الريادية أصبحت جزءًا من المجتمع السعودي؟

أحد العوامل التي تحدد استدامة أي بيئة ريادية هو مدى تقبل المجتمع لفكرة “ريادة الأعمال” كخيار مهني فعلي.
في السعودية، شهدنا خلال السنوات الأخيرة تحولًا واضحًا في النظرة المجتمعية، لا سيما بين الشباب والنساء، نحو تأسيس الشركات الناشئة والمشاريع الريادية. لكن استمرار هذا الزخم يتطلب دعمًا من التعليم والإعلام والمجتمع المدني لترسيخ ثقافة ريادة الأعمال في الجيل القادم.

تجارب مؤسسين وشهادات واقعية

لضمان استمرارية زخم الشركات الناشئة في السعودية، من المهم إلقاء الضوء على قصص واقعية من السوق المحلي، تُظهر لنا ما الذي يجعل شركة تنجح وأخرى تتعثر، بعيدًا عن الأرقام والنظريات.

قصص شركات نجحت واستمرت

عدد من الشركات الناشئة في السعودية استطاعت تجاوز مرحلة التأسيس، والوصول إلى مراحل نمو واستثمار متقدمة بفضل وضوح رؤيتها ومرونتها في مواجهة التحديات.
من أبرز الأمثلة:

  • ساري (Sary): منصة تجارة إلكترونية بالجملة، بدأت في السوق السعودي وتوسعت لاحقًا في عدة دول. تمكنت من جذب استثمارات تجاوزت 100 مليون دولار خلال مراحل متعددة، وركزت على قطاع حيوي لم يكن يخضع للتحول الرقمي سابقًا.

  • كلاسيرا (Classera): واحدة من أبرز قصص النجاح، تأسست في السعودية وتوسعت لتخدم أكثر من 40 دولة، بعد دخول صندوق “سنابل” كشريك استثماري. الشركة استفادت من الفرص المتاحة في قطاع التقنية التعليمية وتكيفت مع الاحتياجات المحلية والإقليمية.

هذه النماذج تثبت أن البيئة السعودية بدأت تنتج شركات قادرة على المنافسة إقليميًا وعالميًا، وهو مؤشر إيجابي على نضج المنظومة.

شركات لم تنجح: لماذا؟ 

إلى الجانب الآخر، واجهت بعض الشركات الناشئة في السعودية تعثرًا، ومن أشهر الأمثلة:

سبويلي: تأسست سبويلي  على يد عبدالله الغدوني كمنصة إلكترونية تربط بين صالونات التجميل والعملاء، بهدف تسهيل حجز المواعيد وتقديم خدمات تجميلية متنوعة.

أسباب التعثر:

  • عدم التحقق من احتياج السوق الحقيقي: رغم أن الفكرة بدت واعدة، إلا أن المؤسس عبدالله الغدوني اكتشف لاحقًا أن السوق لم يكن مستعدًا لتبني هذه الخدمة بالقدر المتوقع، مما أدى إلى ضعف الإقبال.

  • الافتراضات غير المدروسة: اعتمد الفريق على افتراضات حول سلوك العملاء دون إجراء دراسات ميدانية كافية، مما أدى إلى تقديم خدمة لا تتوافق تمامًا مع احتياجات السوق.

ماذا تحتاجه السعودية للمحافظة على زخم الشركات الناشئة؟

  • دعم ثقافة التخارج والاستحواذ:
    غياب ثقافة الاستحواذ والاندماج يحد من فرص توسع الشركات الناشئة. ووجود أطر تنظيمية مشجعة لعمليات الاستحواذ من قبل شركات كبرى أو صناديق سيادية سيسهم في تحفيز المؤسسين والمستثمرين على المدى الطويل.

  • توسيع نطاق التمويل في المراحل المتقدمة:
    يجب تعزيز تمويل المراحل بعد البذرة “seed” وسلاسل الاستثمار اللاحقة (Series A وما بعدها)، وذلك من خلال صناديق نمو، أدوات تمويل بديلة، أو شراكات مع مؤسسات مالية محلية ودولية.

  • إشراك القطاع الخاص بفعالية أكبر:
    توزيع الأدوار بين القطاعين العام والخاص يحتاج إلى إعادة هيكلة وتكامل أوضح، لضمان أن يكون للقطاع الخاص دور مباشر في دعم الابتكار والتمويل والإرشاد.

  • إعادة تصميم المناهج الأكاديمية لتلائم سوق العمل الريادي، خاصة في مجالات مثل الذكاء الاصطناعي، الأمن السيبراني، وتحليل البيانات.

  • تعزيز التعاون بين الجامعات والمسرعات والمستثمرين، لضمان وجود مسارات واضحة لتحويل المشاريع الطلابية إلى شركات ناشئة قابلة للنمو.

الطريق واضح، والرؤية موجودة، لكن التنفيذ يحتاج تنسيقًا أكبر بين أطراف المنظومة لدعم نمو قطاع الشركات الناشئة في السعودية، فهل تكون المرحلة القادمة هي اختبار حقيقي للاستدامة؟

اقرأ أيضاً: لماذا تفشل الشركات الناشئة في مراحلها الأولى؟ (الأسباب والحلول)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى