لسنوات طويلة مضت، كان البعض يُقيّم أصول المؤسسات والشركات بقيمة مبانيها ومعداتها وما تحويه مخازنها من منتجات، لكن في ظل اقتصاد يعتمد على المعرفة والابتكار، تتزايد أهمية التحول من اقتصاديات السلع التقليدية إلى اقتصاديات الأفكار الإبداعية والابتكارية. فنحن في عصر تتغير فيه الأشياء بسرعة مذهلة، ولا يوجد فيه مكان للأفكار البالية التي لا تساير متطلبات الحياة للأفراد الذين تتزايد رغباتهم في الاستمتاع بكل ما هو جديد. وينطبق هذا على المنتجات الاستهلاكية أو الخدمية أو حتى السلع المعمرة، التي يجب أن تتطور كل يوم لتفي بمتطلبات الأفراد والمجتمع. إن رائد الأعمال يجب أن يُظهر ابتكاره الجديد في سلعته وفي خدماته المختلفة، فالابتكار يعد أحد أهم العوامل في إنجاح مشروعه. وسواء كان الأمر يتعلق بالمشروعات الفردية أو الاقتصاديات الوطنية، فإن الابتكار هو مفتاح أي ميزة تنافسية، وهو قوة دافعة نحو تحقيق النمو.
وإذا كان معظم البشر يعتقدون أن الإبداع هو ثمرة لمحة عبقرية فقط، فإنني أرى أن الإبداع يمكن أيضًا أن يكون ثمرة مجهود مبذول من رواد الأعمال بغرض تحقيق رغبات المستهلك وتلبية احتياجاته. فالمستثمر الناجح عليه أن يغتنم الفرصة في دعم وتبني الفكرة الناتجة عن زيادة القيمة المضافة للمنتج أو الخدمة.
إن الإبداع يمكن أن يشمل ما يلي:
الاختراع
حدوث تغيير جوهري يؤدي إلى استحداث منتج أو خدمة جديدة، مثل إيلون ماسك بابتكاراته في مجالات الطاقة المتجددة (بطاريات تسلا) واستكشاف الفضاء من خلال شركة سبيس إكس. وقديمًا، توماس إديسون مخترع المصباح الكهربائي، وآيدون لاند مخترع الكاميرا الفورية.
التطوير
يشمل التحسين بناءً على الخبرات السابقة، مثل سوندار بيتشاي، الرئيس التنفيذي لشركة جوجل، الذي قاد تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقها في منتجات مثل مساعد جوجل وتقنيات البحث، ومثل بيل جيتس مؤسس مايكروسوفت.
الإبداع في المنتج
تحسين منتج أو استحداث خواص جديدة لمنتج موجود، مثل تيم كوك الذي قاد شركة آبل لتقديم منتجات مبتكرة مثل ساعة آبل التي تجمع بين التقنية والرفاهية. وقديمًا، ماكس براون الذي ابتكر آلة الحلاقة الكهربائية.
الإبداع في الخدمات
تطوير أساليب جديدة لتقديم الخدمات، مثل براين تشيسكي، مؤسس Airbnb، الذي أحدث ثورة في قطاع الإقامة والسفر بتقديم نموذج تشاركي للإقامة البديلة، ومثل سام والتون مؤسس وول مارت، الذي طور نظام التوزيع لتقليل تكلفة التوصيل.
الإبداع في العمليات
إدخال عمليات تشغيل جديدة أو تحسين العمليات الحالية، مثل جين هوانج، الرئيس التنفيذي لشركة NVIDIA، الذي قاد تطوير معالجات رسومية متطورة أحدثت نقلة نوعية في قطاع الألعاب وتقنيات الذكاء الاصطناعي. وقديمًا، هنري فورد الذي أدخل فكرة خطوط التجميع، مما جعل شركته تقدم إنتاجية عالية بتكلفة تصنيع أقل.
وإذا تحدثنا عن مصادر الإبداع، فهناك العديد من المصادر التي تقوم بدور المحرك والدافع للإبداع، ومنها:
الخبرة العملية
كثير من المبدعين تواتيهم أفكار مبتكرة أثناء مزاولة أعمالهم لدى الغير، مثل بعض الصناعات التي تكون بمثابة حاضنات لإخراج ابتكارات جديدة. فعلى سبيل المثال، قرر كين أولسون، مؤسس شركة المعدات الرقمية، أن يؤسس شركته الخاصة مستفيدًا من خبرته في عمله السابق في شركة IBM، والتي كانت بمثابة حاضنة لفكرته المبتكرة في تصنيع معدات رقمية.
البحث والتطوير
إن الجهد والمثابرة يسهمان إلى حد كبير في إخراج المنتجات أو الخدمات الجديدة إلى حيز الوجود. فعلى سبيل المثال، استخدم نولان بوشنل، مخترع لعبة الأتاري، قطعًا إلكترونية مهملة وأجزاء من اللعب القديمة لابنته ليطور وينتج أول جهاز إلكتروني للعبة الأتاري، وكل هذا تم في جراج منزله. وحديثًا، طورت شركة OpenAI نموذج ChatGPT بناءً على الأبحاث العميقة في الذكاء الاصطناعي ومعالجة اللغة الطبيعية.
المستهلكون
إن احتياجات ورغبات المستهلك هي المحرك الرئيسي والدافع للابتكار. فمثلًا، ماكس براون نجح في تقديم العديد من الأجهزة المنزلية الكهربائية بعد دراسة احتياجات ورغبات ربة المنزل، كما أن شركة دايسون تدرس باستمرار احتياجات المستخدمين، مما أدى إلى تطوير منتجات مثل المكانس الكهربائية اللاسلكية المزودة بتقنيات فلترة الهواء المتقدمة، بناءً على رغبات المستهلكين في أدوات تنظيف أكثر كفاءة وسهولة في الاستخدام.
المنافسون
في كثير من الأحيان، تقوم المنتجات والخدمات التي يقدمها المنافسون في السوق بدور المحرك لتحفيز المبدع على تقديم ابتكارات جديدة منافسة، رغبة منه في احتلال الصدارة لتسويق منتجاته المميزة، والتي تكون عادة وليدة أفكار جديدة مبتكرة. مثل السباق التنافسي بين شركتي هيوليت باكارد وإبسون المنتجتين لطابعات الحاسب الآلي. وفي سباق الهواتف الذكية، قامت شركة سامسونج بابتكار شاشة Foldable القابلة للطي لمنافسة الابتكارات التي أطلقتها Apple، مما خلق سباقًا تنافسيًا في تصميم الهواتف المستقبلية.
الحاضنات
تُعد الحاضنات بأنواعها المختلفة، إضافة إلى الأشخاص المبدعين، من أهم العناصر التي تهيئ المناخ المناسب لظهور الأفكار الجديدة، حيث يتم احتضان هذه الابتكارات لتصبح فيما بعد كيانًا قابلًا للتنفيذ. فشركة ناشئة مثل Stripe لخدمات الدفع الإلكتروني، بدأت في حاضنة الأعمال Y Combinator، التي قدمت الدعم المادي والإرشادي لتحويل أفكار المؤسسين إلى شركة عالمية ناجحة.
ويظل المصدر الأول للإبداع هو الله (البديع)، وهو اسم من أسماء الله الحسنى، وهو الخالق المصور الذي خلق المخ البشري، حيث مكان الفكر والذاكرة ومركز الإحساس والتعلم. متوسط وزن المخ البشري 1.3 إلى 1.4 كيلوجرام من المادة الحية، ويمكنه العمل بنحو 20% من طاقته وقدرته العقلية. يحتوي على ما يزيد على ألف مليون خلية، يخزن ألف معلومة جديدة كل ثانية، ويتعرف على الشيء في أقل من ثانية. بحجمه الصغير، يعادل كمبيوتر وزنه عشرة أطنان. ينشغل بأكثر من شيء في وقت واحد، ويتحكم في القدرة على استخدام اللغة والحساب والمنطق والتحليل. كما يتحكم في قدرة الإنسان على الحدس والتنبؤ والتصور والتخيل والابتكار والرؤية، وأيضًا… الإبداع.
